نخلص من هذا العرض لفرق الخوارج واختلافاتها واتجاهاتها الثلاثة في الخلاف- كما أشرنا- إلى أن الحكم على مرتكب الكبيرة هو أساس أصولهم، ومجمع زمامها، سواء المجمع عليه منها، أو المختلف فيه، وبحسب الحكم عليه يكون الحكم على الدار التي ينتمي إليها.
فإذا ما عدنا إلى منبع الفكرة وسببها، وهو حادثة التحكيم، وعرفنا أن مرتكب الكبيرة عندهم إنما هو بالقصد الأول علي وعثمان ومعاوية وعمرو وأبو موسى وطلحة والزبير.. إلخ، وأن كل من ارتكب كبيرة بعدهم، فالحكم عليه في نظر أي فرقة من الخوارج، إنما هو بحسب حكمها على أولئك الأصحاب السابقين.
إذا علمنا ذلك، برزت لنا حقيقة مهمة، وهي أن طائفة من الخوارج -تشمل فرقاً أو بعض فرق- تقف من الحكم على الأصحاب المختلفين في الفتنة موقفاً وسطاً، بين قول المحكمة والأزارقة، الذين يكفرونهم رأساً، وبين قول الإباضية ونحوهم، ممن يقول: هم كفار نعمة.
وهذا الموقف هو التوقف والإرجاء، أي إرجاء حكمهم في الآخرة إلى الله تعالى، مع إثبات اسم الإيمان لهم في الدنيا، بناءً على الأصل الذي اتخذته أكثر فرق التوقف، وهو أن كل معصية دون الكفر لا يطلق على صاحبها اسم الكفر، ولا ينفى عنه اسم الإيمان.
فتكون خلاصة عقيدة هذه الطائفة: '' أن كل من ارتكب كبيرة، دون الشرك بالله تعالى، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، أما في الدنيا فنحن نجزم بكفر من أشرك بالله فقط، وما عداه نثبت له اسم الإيمان. ''
وبغض النظر عن مفهومهم لمصطلحي الكفر والإيمان، ومدى موافقته لـأهل السنة والجماعة من عدمها، فالمهم هو أنهم لا يحكمون على مرتكب الكبيرة، كالزنا والقذف والسرقة بالكفر والخلود في النار، كعامة الخوارج, بل يرجئون أمره إلى الله تعالى، فإذا ما أرادوا تطبيق هذا الأصل على ما تقرر لديهم، من كون الصحابة المختلفين في الفتنة مرتكبين للكبائر، كانت النتيجة: أن عثمان وعلياً وطلحة والزبير ومعاوية.. إلخ مؤمنون لأنهم لم يشركوا بالله، فلا ننفي عنهم اسم الإيمان، ولكن لا ولاية لهم ولا محبة، نظراً لما ارتكبوه، ومقتضى ذلك -كما رأينا من واقع انشقاقاتهم- أن يقولوا: إن الخوارج مخطئون في تكفيرهم لهم!!
وإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظناه من براءة الخوارج من مخالفيهم ومنابذتهم لهم، وتصورنا ما لا بد أن تتعرض له هذه الطائفة من مهاجمتهم وعداوتهم، وما سوف تقابلهم به هي بطبيعة الحال، أدركنا أن من الممكن المعقول أن يتعمق العداء بينهما، ليصبح عداءً بين منهجين متفاصلين متضادين، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذه العقيدة تتفق مع الإرجاء، الذي هو موقف نفسي يمكن أن يقع عند كل خلاف، كما أسلفنا وذكرنا وجهة نظر أصحابه في الفتنة الأولى.
ويؤكد لنا صحة ما ذهبنا إليه منطوق قصيدة ثابت قطنة، المسمى شاعر المرجئة وهي ما يوصف بأنه الأثر الإرجائي الوحيد الباقي.
وهذا ما يقودنا تلقائياً إلى الحديث عما سمي تاريخياً المرجئة الأولى, والاستقلال عن موضوع الخوارج ابتداءً من هذه النقطة.
  1. المرجئة الأولى

    المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها في المبحث السابق أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة.
    وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة -على قلته- يكفي لإعطاء تصور جيد عنها.
    ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين، فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة -إن وجدت- ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.
    يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه تهذيب الآثار: '' فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟
    قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه إرجا، بغير الهمز فهـو مرجيه، ومنه قول الله تعالى ذكره: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ))[التوبة:106].
    يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى: مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: ((قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ))[الأعراف:111] بهمز أرجه وبغير الهمز
    فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى -يعني الفراء الرازي- قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم '' .
    ثم قال الطبري -بعد نقل آثار عنهم-: ''والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان -رضي الله عنهما- وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ.
    غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه'' .
    ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما- أو أحدهما- وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
    والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختـلفين في الفتنة- رضي الله عنهم- خاصة، فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما.
    ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف.
    فالجماعة يعدونهم من الخوارج -وهم كذلك لمن تأمله- كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج.
    والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم -كما سنرى- فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي.
    والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان -في أول الأمر- وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق.
    وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيا الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف, وعلى هذا نسوق الشواهد:
    فمن المرجئة الأولى محارب بن دثار قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد: '' كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر '' .
    وينقل الذهبي النص مع زيادة: ''قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر '' .
    وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لـعلي، وقد نسب صاحب الأغاني، وصاحب كتاب الزينة- وكلاهما رافضي- هذه الأبيات إلى محارب:
    يـعيب علي أقـوام سـفاها            بأن أرجي أبا حسن عليا
    وإرجائي أبا حسن صواب            عن العمرين براً أو شقيا
    فإن قدمت قوماً قال قوم            أسأت وكنت كذاباً رديا
    إذا أيـقنـت أن الله ربي            وأرسل أحمداً حقاً نبيا
    وأن الرسل قد بعثوا بحق            وأن الله كان لهم وليا
    فليس عليَّ في الإرجاء بأس            ولا لبس ولست أخاف شيئا
    وعند الأخير زيادة بيتين:
    وعثمان وماج الناس فيه            فقالت فرقة قولاً بذيا
    وقال الآخرون إمام صدق            وقد قتلوه مظلوماً بريا
    فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش :-
    يود محارب لو قد رآها             وأبصرهم حواليها جثيا
    وأن لسانه من ناب أفعى            وما أرجا أبا حسن علياً
    وأن عجوزة مصعت بكلب            وكان دماء ساقيها جريا
    متى ترجئ أبا حسن عليا            فقد أرجيت يا لكع نبيا
    ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال:
    خليلي لا ترجيا واعلما            بأن الهدى غير ما تزعمان
    وأن عمى الشك بعد اليقين            وضعف البصيرة بعد العيان
    ضلال فلا تلججا فيهما            فبئست لعمركما الخصلتان
    أيرجا علي إمام الهدى            وعثمان ما اعتدل المرجيان
    ويرجا ابن حرب وأشياعه             وهوج الخوارج بـالنهروان .
    و يرجى الألى نصروا نعثلاً            بأعلى الخريبة والسامران
    يكون أمامهم في المعاد            خبيث الهوى مؤمن الشيصبان

    وهكذا تعرض محارب -ومن كان معه- لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجأ وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!!
    وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجأ وهو إمام ضلالة -وكذا معاوية- فالواجب تكفيرهما!!
    وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول:
    إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.
    هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها.
    هذا وقد ذكر صاحب الأغاني -أيضاً- أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء.
    ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لـمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبد الله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي"، والخشبية: هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي .
    ونجد إماماً فقيهاً آخر هو إبراهيم النخعي، وقد كان معاصراً لـمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة.
    فقد ذكر ابن سعد بسنده ''أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي '' .
    أي لست من الشيعة -الذين أسس مذهبهم عبد الله بن سبأ كما هو معلوم- ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ.
    وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو الشعبي -الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود - ينصح تلميذاً له قائلاً: ''أَحِبَّ صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً '' .
    فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذٍ: وهي الشيعة، والمرجئة، والقدرية، والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي -رضي الله عنهما- هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة.
    وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: خالد بن سلمة الفأفاء، وهو يروي عن الشعبي، ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: كان مرجئاً يبغض علياً، وعبارة الذهبي: ''كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه''
    ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له.
    ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة -شاعر المرجئة المشهور- التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها ، وهي:
    يا هند إني أظن العيش قد نفدا            ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا
    إني رهينة يـوم لست سابقه            إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا
    بايعت ربي بيعاً إن وفيت به            جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا
    يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا             أن نعبد الله لا نشرك به أحدا
    نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً            ونصدق القول فيمن جار أو عندا
    المسلمون على الإسلام كلهم            والكافرون استووا في دينهم قددا
    ولا أرى أن ذنباً بالغ أحـداً            مِ الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا
    لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا            سفك الدماء طريقاً واحداً جددا
    من يتق الله في الدنيا فإن له            أجر الحساب إذا وفَّي الحساب غدا
    وما قضى الله من أمر فليس له            رد وما يقض من أمر يكن رشدا
    كل الخوارج مخطٍ في مقالته            ولو تعبد فيما قال واجتهدا
    أما علي وعثمان فإنهما            عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
    وكان بينهما شغب وقد شهدا            شق العصا وبعين الله ما شهدا
    يجزى علي وعثمان بسعيهما            ولست أدري بحقٍ أيّـةً وردا
    الله يعلم ماذا يحضران به             وكل عبد سيلقى الله منفردا
    هذه القصيدة التي رواها صاحب الأغاني وجادة، ذكر معها سببها قال: '' كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بـخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء '' .
    والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي:
    1- إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين.
    2- إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد) .
    3- أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يُكفَّر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره) .
    4- الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس.
    5- أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة.
    6- الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه.
    7- تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين -لا سيما عثمان وعلي- ولا يشفع لهما تـنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة) .
    8- أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما شرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد.
    وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة: ''أن المرجئة يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي: يؤخرونه ويجعلونه لله, ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ أن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد, وهو في غنى عن العمل، خلافاً للـخوارج الذين يرونهما- يعني العمل والإيمان- شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ، وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين, أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون، ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام'' .
    فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة إرجاء المرجئة الأولى الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين.
    وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتـفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي- بزعمه- مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة .
    كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم.
    والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات، فهي في الحقيقة متناقضة, وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء -كما سبق أن قررنا في المبحث السابق- وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم -واقفتهم- بشأن ما وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهورمرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما .
    وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبا كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه, على ما سبق تفصيله.
    فانتقل الأخيرون- ربما وهم لا يشعرون- إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه، وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة, مع أن فيه بذرة أو شعبة منه.
    و هذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون.
    وحال ثابت -مع ما سبق قبله- هو الذي يفسر التـناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثَمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر، سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً.
    فهو على أية حال ناصبي غالٍ عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع).
    أما إذا نظرنا نظرة متكاملة- وهو الصواب- فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك.
    وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر- رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد- فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه، فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ -كما قيل- أربعين ألف بيت, منها قوله:
    لسنـا من الرافضة الغلاة            ولا من المرجئة الحفاة
    لا مفرطين بل نرى الصديقا            مقدماً والمرتضى الفاروقا             نبرأ من عمرو ومن معاوية
    فـالمعتزلة -كما هو معلوم- هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتـفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار!!
    فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان.
    أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كـعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين، وقال: '' إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها '' .
    وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم- كما سبق- لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض- أو بعضهم- بالنسبة للشيخين، ولـعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته.
    ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة -أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة- وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة -والغلاة هنا وصف لا مفهوم له- وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة, المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لـعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات.
    لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فـالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرءون ممن بعدهما.
    والمقصود: أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى أيضاً، أي: الإرجاء المتعلق بالصحابة.
    على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبد الجبار وهو قوله: ''إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى '' .
    فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى.
    لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون- أو بعضهم- في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء -كما سبق- فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان علي وعثمان الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة.
    والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام -كما هو معلوم- لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا- إذا غلوا- يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!!
    ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين الشيعة والمرجئة، مثل كتاب الأغاني وكتاب البيان والتبيين لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتـزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً.
    وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعـر لأحد الشيعة:
    إذا المرجيّ سرك أن تراه            يموت بدائه من قبل موته
    فجدد عنده ذكرى علي            وصل على النبي وآل بيته
    فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص.
    وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه، يقول صاحب كتاب الزينة في شرح معنى الإرجاء والمرجئة: '' وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { المرجئة يهود هذه الأمة} .
    وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: (المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى).
    وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره, ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه '' .
    ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم -نقلاً عن ابن قتيبة- وقول المرجئة الفقهاء وردهما، وقال: ''و المرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبا بكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علياً على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه''
    واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري... ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، والشيعي لا يكون مرجئاً.
    فالإرجاء -على ما قلنا- هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجئوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان.
    ثم ذكر أبيات محارب بن دثار، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال: ''ومن ألقاب فرقهم -أي: أصحاب هذه المقالة الذين لزمهم اسم الإرجاء فإنهم فرق كثيرة- أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي '' .
    ثم ذكر من فرقهم-بزعمه- الحشوية والمشبهة والشُكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين.
    وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفاجئه ذلك منه.
    صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء!
    أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام، فإنه يقال: شيعي مرجئي، ورافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان، أو أن المعاصي تضر صاحبها، وهذا هو حال بعض فرق الشيعة.
    يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم: ''ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم، وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة...'' .
    فهؤلاء لا شك يقال: فيهم شيعة مرجئة.
    والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بـعلي إماماً معصوماً، تُتلقى منه وحده أحكام الدين وتتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو (باب حطة) تأويلاً لقوله تعالى: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ))[البقرة:58].
    هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال عقيدتهم حتى في هذا العصر.
    يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: ''إن المؤمن هو الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر.
    إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء '' .
    ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً وقال: '' أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً، ويغفر الله ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها '' .
    ويقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه... لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم
    ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة -أو على بعضهم- تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين.
    والعجب- وكل أمر الشيعة عجب- أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!!
    وما أصدق ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عنهم: ''إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان. .
    ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً '' .
    فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكِّل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية -أو كان هو مذهبهم - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين، ابن نصير أو قرمط أو العبيديين، وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة .
    هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً.
  2. الإرجاء خارج مذهب الخوارج

    من موقف نفسي إلى عقيدة ومبدأ:
    سبق الحديث عن الطوائف والآراء التي ظهرت منذ الفتنة الأولى، وقلنا: إن منها طائفة الشكاك الذين لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم موقفاً معيناً من الخلاف، وخاصة من كان على الثغور البعيدة منهم، وغاية ما كانت هذه الطائفة تشعر به هو الألم الفاجع لما حل بالمسلمين، والأسى البالغ لتفرقهم بعد الاجتماع، فكانت تحن إلى عهد الشيخين وأول عهد عثمان، وتكره أن تسمع أو تفكر في شيء مما حدث بعد.
    ومن الطبيعي أن يوجد في الأمة مثل هذا الاتجاه، ومن الطبيعي -أيضاً- أن يستمر هذا الألم المكبوت متوارثاً لأجيال عديدة، ولهذا عرض لها ما يعرض لغيرها من تطور وتداخل بفعل التقلبات السياسية والفكرية والمجادلات والخصومات، ولم يكن هؤلاء خوارج، ولا ممن يحب الخوارج، أو يواليهم، بل نجزم أنهم ممن يكرههم ويعاديهم، ولكن يجمعهم بـالخوارج تعظيم الشيخين والسخط من الفتنة في الجملة.
    غير أن انشقاق المرجئة الأولى عن الخوارج، واكتفائهم بالموقف السلبي من المشتركين في الفتنة دون القطع لهم بجنة ولا نار، قد أوجد بالفعل طائفة أو رأياً قريباً مما عليه هؤلاء، إلا أن هؤلاء لم يصلوا إليه نتيجة بحث عقائدي ولا حوار نظري، كما أنهم لم يدخلوا أنفسهم في مسألة الحكم على الناس أصلاً.
    وقد كان طرف الرأي المشترك بينهما هو أنه إذا كان الأمر أمر الخلافة وشأنها، فما لنا لا نقول بإمامة الشيخين اللذين أجمعت عليهما الأمة، وندع شأن من بعدهما، فلا نتقاتل ولا نتخالف من أجلهم.
    وإلى هنا تقف هذه الطائفة في حين يذهب أولئك في الحكم على عثمان إلى ما سبق، أما هم فيظلون على هذا الإرجاء السلبي، الذي هو إرجاء شك وحيرة ونفرة من الخوض في القضية، لا إرجاء عقيدة وفكرة.
    وبخلاف أفكار الخوارج التي لم يدونوها بأنفسهم، بل جمع بعض مأثوراتهم مؤرخون متأخرون فقد قدر لهذا الإرجاء أن يكتب، والكتابة تحول الرأي إلى عقيدة، ولم يكن غريباً أن يكون الذي كتبه رجل من آل البيت، من ذرية علي رضي الله عنه.
    ذلك أن آل البيت ابتلوا بطائفتين متقابلتين: طائفة تنقص قدرهم وتجحد حقهم ولا تقيم لهم حرمة ولا مكانة، وطائفة أخرى أدهى وأمر وهي التي غلت فيهم وألهتهم، حتى أنها أنشأت حركات ثورية ضالة تـنتسب إليهم، وتزعم الدعوة لإمامتهم, والثورة لقيام خلافتهم، كما حصل من ادعاء المختار الكذاب وأمثاله الدعوة لـمحمد بن الحنفية.
    وظل أئمة آل البيت ينكرون تلك الادعاءات الهدامة علناً، ولكن الهدامين يزعمون للرعاع والأتباع أن ذلك منهم على سبيل التقية، وكان طبيعياً أن يتردد الناس إلى آل البيت، ويكاتبوهم سِراً أو علناً يسألونهم عن حقيقة الأمر، وكان الجواب يؤكد ويكرر، لكن دون جدوى.
    وفي هذا الجو المشحون بالفتن، لم يكن غريباً أن يميل بعض ذرية علي إلى رد فعل عنيف، يجعلهم يقولون علناً: إن إمامة علي نفسها كانت موضع شك، لأن الأمة لم تجتمع عليه، وهذا دفع بعيد للتهمة، وتخلص من الأزمة التي يعانونها، حيث يخضعون لرقابة شديدة من ولاة بني أمية، في الوقت الذي تدعيهم فيه تلك الفئات الهدامة السري منها والعلني، حتى أن أثر ذلك ظهر في الجانب العلمي البحت، فقد تجنب بعض الرواة الأخذ عنهم، وتجنب بعضهم ذكر أسمائهم في الإسناد.
    هذا الموقف النفسي الخانق، هو- في نظرنا- الذي دفع بالإمام العالم الفاضل الحسن بن محمد بن الحنفية إلى كتابة الإرجاء على النحو الذي ستذكره الروايات، وسوف نرى أنه لم يضعه ليؤسس به فرقة أو مذهباً، بل سرعان ما عاد عنه، وندم على أنه خرج ذلك الرأي منه.
    قال الإمام أحمد في كتاب الإيمان: '' حدثنا أبو عمر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعته؟ -وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: فقال لي: يا أبا عمر , لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب، أو قال: قبل أن أضع هذا الكتاب '' .
    وروى الحافظ ابن عساكر والمزي -واللفظ له- بسنديهما عن عثمان بن إبراهيم بن حاطب قال: ''أول من تكلم في الإرجاء الأول الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت في حلقة مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم، ثم قام فقمنا.
    فقال لي عمي: يا بني، ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً.
    قال عثمان: فقال به سبعة رجال رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب.
    قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصاً فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً!
    قال: وكتب الرسالة التي نبت فيها الإرجاء بعد ذلك '' .
    ويذكر ابن عساكر ما ذكره الإمام أحمد من توبته، وهو ما ذكره محمد بن سعد من قبل، حيث قال في ترجمته: ''هو أول من تكلم في الإرجاء '' .
    ثم روى ''أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب.. '' وذكر مثل رواية الإمام على أن الحافظ ابن عساكر ينقل عن الدارقطني ما يؤيد ما ذكرناه عن الحسن، وهو أنه قال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل، إن أبا بكر كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين.
    والكوفة هي موطن التشيع، لا سيما في ذلك الوقت كما هو مشهور!
    ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر على كلام المزي بعد تهذيبه قائلاً: '' قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أنه وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له في آخره قال:
    حدثنا إبراهيم بن عيينة، عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله -فذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره -: ونوالي أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله.. إلى آخر الكلام '' .
    فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتـتلتين في الفتـنة بكونه مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أن يرجئ الأمر فيهما.
    وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه أحد، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم .
    وكلام الحافظ في معنى الإرجاء الذي كتبه الحسن صحيح، وتدل عليه عبارة المزي -أول من تكلم في الإرجاء الأول- وعلى هذا القيد يحمل ما نقله ابن عساكر عن الإمام أحمد، وما نقله هو عن ابن سعد وعن أيوب، من أنه أول من وضع الإرجاء أو تكلم فيه عدا من نقل عنهم المزي ذلك.
    لكن ينبغي أن نستدرك على الحافظ رحمه الله قوله: ''فمعنى الذي تكلم فيه الحسن.. إلى قوله فلا يلحقه بذلك عاب!! ''فالحق أن العاب يلحق الحسن، من جهة أن كلامه أعم مما خصصه به الحافظ، بل الروايات غير رواية العدني مصرحة بقوله في عثمان وعلي فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم.
    ونفي الولاية عن الخليفتين مما يعاب ويبدع به صاحبه بلا ريب، كيف وقد ضربه أبوه وقال: لا تتولى أباك علياً؟ وندم هو على ذلك، ولا يكون الندم إلا على خطأ أو خطيئة.
    وقد نص الحافظ ابن كثير على ما يغاير مفهوم الحافظ ابن حجر فقال عن الحسن: '' كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم'' .
    نعم لا يلحقه عابٍ بعد أن ندم وتاب.
    أما الذي يلحقه العاب -فعلاً- فهم بعض المحدّثين أو المعاصرين، الذين ضربوا بهذه النصوص العلمية عرض الحائط، واختلقوا أن الحسن -بل أباه محمداً من قبل- كان فيلسوفاً أو متكلماً، تعمد أن يؤسس مذهباً كلامياً يقاوم به الخوارج.. الخ، وعلى رأسهم الدكتور علي سامي النشار.
    فقد عرض النشار تاريخ الفتنة ونشوء الفرق عرضاً لا يختلف عن عرض أي مؤلف رافضي أو معتزلي، وقد كانت مصادره فعلاً كذلك.
    ويا ليته اقتصر على هذه المصادر، إذن لكانت كتابته شيعية واضحة، وسَلِم من التناقض العجيب الذي وقع فيه، حين يخلط كلام هؤلاء بكلام أهل السنة بالمعنى العام للكلمة، فيقرر في صفحة أو مبحث ما ينقضه فيما بعده، بل ربما تناقض في الصفحة الواحدة.
    لقد أساء الدكتور النشار إلى التابعي الجليل محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية) حين نسب إليه تأسيس مدرسة أو مكتب انبثق منه الاعتزال والإرجاء، وأنا أعجب من إساءة الدكتور إلى آل البيت رغم ما يظهره من تشيع شديد، فحين يصف أبا سفيان وابنه معاوية وبني أمية كلهم بالزندقة والجاهلية، والحقد الدفين على الإسلام كدين، وعلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويصف عثمان رضي الله عنه بأنه شيخ متهاوٍ متهالك، لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل، يترك الأمر لبقايا قريش الضالة .. إلى آخر هذه المفتريات فإن هذا يتمشى مع منهجه التشيعي الترفضي!!
    أما حين يقرر أن العامل الاقتصادي هو أحد أسباب نشأة الفرق، ويقول: فقد كان الاقتصاد إلى حد كبير، أو بمعنى أدق شعور الطبقات المحرومة في عهد عثمان، داعياً إلى قيام التشيع، والتفاف جماهير كبيرة من الفقراء حول علي بن أبي طالب، وتمثل هذا بصورة صادقة حين سوى علي بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، مما دعا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله إلى الانتفاضة ضد علي، وإثارة الحرب الأليمة ضده. فلا أدري على أي منهج يسير إلا منهج ماركس ولينين!!
    ولنتابع كلام الدكتور بخصوص قضية الإرجاء مقتصرين على فقرات منه:
    قال بعد الحديث عن الفتنة ونشوء الفرق من شيعة وخوارج ومعتزلين للفتنة:
    '' وفي وسط هؤلاء المعتزلة عن الناس، ظهرت أول مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام، وهي مدرسة محمد بن الحنفية الابن الثالث لـعلي بن أبي طالب وأكثر أولاده علماً وسمتاً وفضلاً، وقد عبر عن هذه المدرسة باسم المكتب، ولم ينتبه الباحثون إلى أهمية هذه المدرسة الأولى، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من أنها تفوق مدرسة الحسن البصري في آثارها في أفكار المسلمين حينئذ، ولم ينتبه الباحثون أيضاً إلى أن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام إنما كان في المدينة حيث ازدهرت تلك المدرسة ولم يكن في البصرة '' .
    ولم يشر الدكتور إلى أي مصدر عن هذه المدرسة الموهومة.
    ثم تحدث عما لـمحمد من أثر فكري، حيث تدعيه كل فرقة حتى الكيسانية والقرامطة، وقال: ''ويهمنا الآن أنه كان في مكتب محمد بن الحنفية أو في مدرسته في المدينة ابناه الإمامان أبو هاشم عبد الله بن محمد.. والحسن بن محمد ''
    ثم يذكر أقوالاً شيعية واعتزالية في أن أبا هاشم هو مؤسس الاعتزال، ويقول: فمنشأ الاعتزال طبقاً لهذه الرواية هو أبو هاشم عبد الله بن الحنفية وموطن الاعتزال طبقاً لهذه الرواية أيضاً المدينة لا البصرة.
    وينتـقل للحديث عن الحسن وهو الذي يهمنا هنا، قال: '' أما ثانيهما، فهو الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى سنة 101 هـ، شخصية من أهم شخصيات الفكر الإسلامي الأول.
    ويذكر عبد الجبار: لم يكن الحسن بن محمد بن الحنفية مخالفاً لأبيه وأخيه إلا في شيء من الإرجاء أظهره.
    وقد كتب أول كتاب في العقائد في الإسلام، وهو كتاب في الإرجاء.
    وكان أكبر تلامذته غيلان بن مسلم الدمشقي، فقد حمل عنه الإرجاء في الشام، كما أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد تأثر به، وإن لم يكن قابله وتـتـلمذ عليه، فقد نفذ إرجاء الحسن إليه، وردده أبو حنيفة كما هو.
    وقد كان لكتاب: (في الإرجاء) أثر كبير في ا لعالم الإسلامي.
    تلك هي المدرسة الإسلامية الفكرية الأولى، التي خرج أكبر رواد الفكر الإسلامي الأولين منها '' .
    وبعد استطراد لا ضرورة له، كرر فيه القول بوصف خلفاء بني أمية بالجاهلية، والعمل لهدم الإسلام وتحطيمه.. إلخ, عاد إلى موضوع المكتب فقال: '' وفي هذا المكتب، وفي المدينة نفسها، تبلورت الفكرة التي عرفت باسم القدرية.. كان معاوية يعلن الجبر في الشام.. ورأى محمد بن الحنفية وابنه أبو هاشم، وهما أصحاب البيت الذي سُلب الحق، أن يعلنا في هدوء الفكرة المضادة: إنكار القدر وإنكار إضافته إلى الله '' .
    وهو يؤيد هذه التهمة الخطيرة بأن معبداً الجهني الذي يكتبه الدكتور (الجهمي): '' إنما كان تلميذاً وأثراً لـمحمد بن الحنفية '' .
    ويحاول الدكتور بمصدر وبدون مصدر أن ينسب كل الضلالات والبدع التي نشأت في القرن الأول -عدا الخوارج- إلى محمد بن الحنفية وابنيه، ظاناً أنه بذلك يرفع من قيمة آل البيت، حين يرجع إليهما فضل تأسيس ما أسماه الفكر الفلسفي الإسلامي!!
    والواقع أن هذا بعينه هو ما تذهب إليه الشيعة، فهم لفرط جهلهم بما يعظم أهل البيت وما يشينهم، ولاعتقادهم تلك الضلالات ينسبونها جميعاً إلى علي من طريق نسبتها إلى ابنه محمد وابنيه، وهذا ما فعله صاحب منهاج الكرامة من قبل.
    وقد رد شَيْخ الإِسْلامِ على هذا الهراء بأنه من الممتنع أن يكون أبو هاشم واضع الاعتزال والحسن واضع الإرجاء, وكلاهما يأخذ ذلك عن أبيه, لأنهما مذهبان متناقضان، كما أن كلاً منهما قد نسب إليه الرجوع عن ذلك.
    وأعجب من ذلك أن النشار نفسه قال بعد حوالي عشر صفحات فقط: ''نشأت القدرية إذن، واعتنقها كثيرون من المسلمين، خارجة عن مذهب أهل السنة والجماعة منذ القدم، وقاومها أهل السنة والجماعة منذ القدم أيضاً '' .
    فهل ابن الحنفية وابناه خارجان أيضاً عن أهل السنة والجماعة أم ماذا؟!
    إن هذه هي نتيجة الاستقاء من مصادر متناقضة دون تمييز.
    والخوارج هي الفرقة الوحيدة التي سَلِمت من نسبتها إلى مكتب ابن الحنفية!! ولكن الحديث عنها جر إلى إلصاق الإرجاء الغالي الصريح بهذا المكتب, يقول النشار متابعاً حديثه: ''لقد ضج المجتمع الإسلامي بـالخوارج وبآرائهم، ومع ذلك فقد كانت تلقى صدى في عقول الكثيرين فاستجابوا لها، ولم يعرف الخوارج التقية كما عرفها الشيعة، فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع، ووجدت دعوتهم في عدم إيمان المخالف أكبر صدى، ووجد الإمام الحسن بن الحنفية أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك (الحكم لله لا لـعلي) ينشرون أصلاً آخر خطيراً لقتل المسلمين وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب للأمصار ويعلنها للناس، وبينما كان منطق الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله، كان الحسن يعلن أن االطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإسلام حتى يزول بزوالها '' .
    ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن ، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء -الحنفية- دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام، لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء، وهم بريئون من الأول.
    والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتـقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: '' وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد، مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى 150 هـ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار.. '' .
    وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة؟
    ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان.
    هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء, وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: '' أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً- كما سنرى بعد- إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق..." .
    ويقول: '' وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن: الإيمان عقد وعمل، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً... فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة ''.
    ثم يضيف مؤكداً: ''إن مرجئة أهل السنة قد نشئوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين- شيعة كانوا أو جماعة- من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة...'' .
    ويقول: ''وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية.. '' إلخ
    وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول.
    والحق -كما أوضحنا سابقاً- أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً.
    وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرءوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً.
    وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
    والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً:
    لأول ما نفارق غير شك            نفارق ما يقول المرجئونا
    وقالوا مؤمن من آل جور            وليس المؤمنون بجائرينا
    وقالوا مؤمن دمه حلال            وقد حرمت دماء المؤمنينا
    .
    ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها.
    والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان، ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء -بزعمهم- ما سفك .
    وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين، وارتكب ما ارتكب بزعمهم!!
    هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لـعمر، وقد ردها بقوله:
    وقالوا مؤمن من آل جور            وليس المؤمنون بجائرينا
    والمقصود هنا علي، أي: أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه الخوارج يرى التكفير بالجور كأي معصية , فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور.
    وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة؟!
    هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
    بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول.
    ومن ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: '' كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة '' .
    وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: ''حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة، والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة '' .
    ورواه أبو عبيد عن بعضهم.
    وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إسحاق قال: ''سألت أبا عبد الله قلت: الشراة يأخذون رجلاً، فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى له أن يفعل؟
    قال أبو عبد لله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه.
    أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبد الله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟
    قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والولاية: أن تتولى بعضاً وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار '' .
    فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما على ما سبق.
    وهذا ما كانت الخوارج -أو بعضها- تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل.
    كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب السنة المطبوع مع كتاب الرد على الزنادقة: '' إن الخوارج هم المرجئة '' .
    وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن- اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة- وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون أهل السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار.
    فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما -كحال غلاتهم- أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون, كحال مرجئتهم.
    فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به.
    هذا ما ظهر لي، والله أعلم .